جمعني خلال الأسابيع القليلة الماضية لقاءات مع لفيف من الرؤساء التنفيذيين لكبريات شركات الطاقة المتجددة العالمية، بحكم الصداقة ندخل اللقاءات من البوابة الإنسانية قبل السير على أشواك دروب استثمار أقرب إلى سباق حواجز دائري في مناخات تُبرق وترعد صيفًا وشتاءً، رفع وتيرة توتراتها فيروس كورونا المستجد، والحرب الروسية الأوكرانية، وتبعات تغير المناخ، ثم الاجتياح الإسرائيلي لفلسطين.
ارتفع مستوى التضخم العالمي وانتفخت فاتورة خدمة القروض مهددة استثمارات الكثير من القطاعات، وأدى اضطراب سلاسل الإمداد إلى تعثر المشروعات، وخروج العديد من الشركات من ماراثون المنافسة، بينما تعرضت أخرى لهزات ارتدادية عنيفة حُبست معها الأنفاس خوفًا على قطع الخزف المتراصة من هياج ثور تقلبات الأسواق. ماراثون دائري، لا يلبث يبدأ من حيث انتهى.
أيضًا، فرضت رياح المنافسة مع الشركات الصينية نفسها على النقاشات مع المسئولين الغربيين، فمع كل صباح يقضم النمل الصيني قطعًا معتبرة من كعكة استثمارات تنمو عامًا بعد عام، تجاوزت العام الماضي عتبة 360 مليار دولار؛ (37% الصين، 22% أوروبا، 13% أمريكا، 32% باقي دول العالم).
منذ نحو خمسة عشر عامًا، أو يزيد قليلاً، استحوذت الشركات الأوربية على حصة الأسد في السوق العالمي، الآن –تكافح وبشق الأنفس- للحفاظ على نصف هذه النسبة أمام تنين صيني داس بحضوره القوي وأسعاره الرخيصة الصناعات اليابانية، والأوربية، والأمريكية، وقضمت شركاته أكثر من 50% من سوق طاقة الرياح ونحو 75% من استثمارات الخلايا الشمسية.
ويُرجع المسئولون الأوربيون ارتفاع حصة التنين إلى دعم مادي تقدمه الحكومة الصينية لشركاتها، وهو أمر عادة ما يترافق مع المراحل الأولى لنشر تكنولوجيات ناشئة تتلمس طريقها، وهو عكس ما صارت إليه الطاقة المتجددة من تطور وتنافسية.
في نهاية التسعينات وأوائل الألفية قدمت الحكومات الأوربية حوافز كبيرة لمنتجي ومستهلكي الطاقة المتجددة عبر سياسات تنفيذية أشهرها تعريفة التغذية Feed-in Tariff والتعريفة المميزةPremium Tariff ، التزمت بموجبها الحكومات بشراء الطاقة المنتجة بأسعار حققت هامش ربح مغريًا أدى إلى ارتفاع الطلب وتسريع دورة التطور التكنولوجي، وبناءً عليه تخلصت تدريجيًا من هذه السياسات وتحولت إلى الأسواق التنافسية.
اليوم يحاول الغرب عرقلة تقدم التنين الجامح بوضع المزيد من الحواجز في طريقه من قبيل عقوبات اقتصادية كما فعل الرئيس الأمريكي الأسبق ترامب من خلال حظر تصدير التكنولوجيا المتقدمة، وخاصة أشباه الموصلات، وحواجز سياسية باللعب بورقة تايوان على طاولة المساومات.
ومع هذا، وحتى العام الماضي، لا يزال الميزان التجاري بين البلدين لصالح الصين بفارق تجاوز 700 مليار دولار.
صين اليوم ليست صين حرب أفيون القرن التاسع عشر وتسلط بريطانيا لتبادل السلع الصينية بالأفيون المنتج في الهند البريطانية، ولا صين قرن المهانة (1940 – 1950) وقت ما كانت مطمعًا للكثير من الدول، ولا صين الرفيق ماو، بل صين دينج شياوبنج وإصلاحاته الاقتصادية.
تنفذ صين اليوم مشروعاتها للطاقة المتجددة مقرونة بعقود طويلة الأجل لخدمة ما بعد البيع، مما يعني للمستثمر استدامة التشغيل والربحية، وتلافي تقلبات السوق، وللشركات الصينية الاستحواذ طويل الأجل على السوق وقضم المزيد من الكعكة.
على الضفة الأخرى، يبدو أن المنافسين الأوربيين استغرقوا في أدبيات علوم الإدارة على حساب تطوير الجانب التنفيذي مع خفض التكلفة، مكتفين بتحذير الأسواق من مغبة السير خلف الصين، والتي على حسب قولهم، تخطط للسيطرة على العالم، منشغلين باختراع مبررات سيادة منافسيهم عن دوي صفارة قطار الصين السريع المنطلق في الاتجاهات الأربعة، بينما يكتب دخانه في المحطات كافة "ولا يزال الدرس مستمرًا".